![]() |
مقدمة
هل سبق وتساءلت لماذا تتخذ قرارات قد تندم عليها لاحقًا؟ في عصر المعلومات المتدفقة، أصبح اتخاذ القرارات السليمة تحديًا أكبر من أي وقت مضى.
تخيل نفسك في متجر إلكترونيات، محاطًا بعشرات الهواتف الذكية. هل تختار الأحدث والأغلى، أم تفكر مليًا في احتياجاتك الحقيقية؟ هذا المشهد اليومي يكشف عن معضلة عميقة في طريقة تفكيرنا واتخاذنا للقرارات.
لماذا هذا الكتاب مهم لك؟
في كتابه "أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح"، يأخذنا عالم النفس الإدراكي أوليفييه سيبوني في رحلة مثيرة تكشف عن:
١- الآليات الخفية التي تحكم عقولنا عند اتخاذ القرارات
٢- "الفخاخ العقلية" التي نقع فيها دون وعي
٣- استراتيجيات عملية للتغلب على التحيزات وتحسين قراراتنا
سواء كنت مديرًا تنفيذيًا يتخذ قرارات مصيرية، أو شخصًا عاديًا يواجه خيارات يومية، هنا يَأتي كتاب "أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح" لِعالم النفس الإدراكي "أوليفييه سيبوني" ليُقدّمَ لنا رؤيةً مُغايرةً تَكشفُ عن خبايا العقل البشري وآليّاتِهِ المُعقّدة في التفكير واتخاذ القرارات. إنّها رحلةٌ مُشوّقة في دهاليز عقولنا، يَقودنا فيها الكاتبُ بِأسلوبٍ سلسٍ ومُبسّط إلى فهم تلك العوامل الخفية التي تُؤثّرُ على اختياراتنا، مُقدّماً لنا في نهاية المطاف مجموعةً من الاستراتيجيات الفعّالة التي تُمكّننا من التغلّب على تلك "الفخاخ العقلية" واتخاذ قراراتٍ أكثر عقلانية وحكمة.
تعرية زيف "الإنسان الاقتصادي":
لطالما هيمن مفهوم "الإنسان الاقتصادي" على الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، وانعكس ذلك على مُختلف المجالات الأخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع. وتقومُ هذهِ النظرة على اعتبار الإنسان كائنًا عقلانيًا بحتًا، يَسعى دائماً إلى تعظيم منافعهِ المادية وتحقيق أقصى قدرٍ من الكفاءة في كافّة تصرفاتهِ، بما في ذلك طريقة اتخاذِهِ للقرارات.
لكن سيبوني يَرفضُ هذهِ النظرة التبسيطية لِطبيعة الإنسان، ويُؤكّدُ في كتابهِ أنّ العقل البشري أبعد ما يكونُ عن كونِهِ مجرد آلةٍ حسابيةٍ باردة، بل هو عُرضةٌ لتأثيراتٍ نفسيةٍ و عاطفيةٍ مُتنوّعة تُشكّلُ جزءًا لا يتجزّأ من عملية التفكير واتخاذ القرارات.
ويَستدلُّ الكاتب على صحة فرضيّتهِ بِالعديد من الأبحاث والتجارب العلمية التي أثبتت أنّ العواطف والانفعالات تلعبُ دورًا مُؤثّراً في طريقة تفكيرنا وتحليلنا للأحداث، وبالتالي في القرارات التي نَتّخذُها. فلنفترض أنّك تُريد شراء سيّارةٍ جديدة، فبدلاً من أن تُقارن بين المواصفات الفنية وأسعار السيّارات المختلفة بِمُوضوعية، قد تَنجذب إلى سيّارةٍ مُعيّنة فقط لِأنّك تُشاهدُ إعلانًا دعائيًا جذّابًا لها، أو لِأنّ أحد أصدقائك يمتلكُ سيّارةً مُماثلة ويُشيدُ بِمُميزاتها. وهنا تَكونُ العاطفة قد تدخّلت لِتُؤثّر على قرارك النّهائي، ربّما دون أن تُدرك.
"فخاخ العقل": أَوهام تُؤثّر على قراراتنا:
يُكرّسُ الكاتبُ فصلاً هامّاً من كتابهِ لِلتحدّثِ عن "التحيزات الإدراكية"، وهي عبارةٌ عن أنماطٍ مُحدّدة من التفكير المُشوّه والمُنحاز التي تَتسرّبُ إلى عقولنا وتُؤثّرُ على طريقة إدراكنا وتفسيرنا للأحداث والأشياء من حولنا. ويكمنُ خطرُ هذهِ التحيّزات في كونها تَعملُ بِشكلٍ لا شعوريّ، فنحنُ لا نَعي وجودها في الغالب، مما يَجعلنا عُرضةً لِلتأثّر بها دون أن نشعر.
ومن أبرزِ التحيّزات الإدراكية التي يتناولها الكتابُ بالتّفصيل:
● فخّ التأكيد: وهو ميلُنا الفطريّ إلى البحث عن المعلومات التي تُؤكّدُ مُعتقداتنا المُسبقة، وتجاهل - أو حتى إنكار - أيّةِ معلوماتٍ تُعارضُها، حتى وإن كانت أكثر منطقيةً ودقة. فعلى سبيل المثال، إذا كان الشخصُ يُؤمنُ بِأنّ التدخين غير ضارّ بِالصحة، فإنّهُ سَيَمِيلُ إلى البحث عن الدراسات التي تُؤكّدُ هذهِ الفكرة، وسيَتجاهلُ - أو قد يُشكّك في صدقيّة - الدراسات العلمية التي تُثبتُ عكسَ ذلك. ويُمكنُ لِهذا الفخّ أن يُؤدّي إلى التعصّبِ الفكريّ وتصلّبِ الآراء، وعدمِ القدرةِ على التّعلّم من الأخطاء.
● فخّ الرسو: ويُشيرُ هذا التحيّز إلى تأثّرنا الكبير بِالانطباعات الأولية التي نَتلقّاها عن الأشخاص أو الأحداث، بِحيثُ تُصبحُ هذهِ الانطباعات بِمثابةِ "مرجعيّةٍ" لِتقييمنا لِكُلّ ما يَليها، حتى وإن تبيّنَ لنا لاحقًا أنّها كانت خاطئةً أو غير دقيقة. فَلو افترضنا أنّك التقيتَ بِشخصٍ لِأوّلِ مرّةٍ في مُناسبةٍ اجتماعية، وكان يَبدو عليهِ الغطرسة والبُرود، فمن المُرجّح أن تَحتفظ بِهذهِ الصورة السلبيّة عنهُ حتى وإن تَبيّنَ لَك لاحقًا أنّ سلوكهُ كان ناجمًا عن ظروفٍ خاصّةٍ مرّ بها في ذلك اليوم.
● فخّ التوفر: ونقصد به ميلنا إلى المبالغة في تقدير احتمالية حدوث الأحداث التي تَسهُل إعادة استرجاعها في ذاكرتنا، سواءً لِكونها أكثر إثارةً أو لِحدوثها مؤخّرًا نسبياً. فمثلاً، قد نُبالغ في تقدير احتمالية التعرّض لِهجومِ سمكة قرش أثناء السباحة في البحر، ذلك لأنّ وسائل الإعلام تُسلّط الضوء بشكلٍ مكثّف على هذهِ الحوادث النّادرة، بينما نتجاهل مخاطرَ أخرى أكثر شيوعًا كالتعرّض لِحوادث السيّارات مثلاً. ويُمكنُ لِهذا التحيّز أن يُؤثّرَ على قراراتنا بِشكلٍ سلبيّ، حيث يدفعنا إلى تجنّب مخاطرَ واهية والمُبالغة في تقدير أهمّية أحداثٍ قد لا تَستحقّ كلّ هذا الاهتمام.
مفاتيح لِاتّخاذ قراراتٍ أكثر صواباً:
لا يَكتفي "أوليفييه سيبوني" في كتابهِ بِتَشخيصِ تلك "الفخاخ العقلية" والتحيّزات الإدراكية، بل يَخطو خُطوةً إلى الأمام مُقدّماً لنا مجموعةً من الاستراتيجيات والمبادئ الفعّالة التي تُمكّننا من تفادي الوقوع فيها واتخاذ قراراتٍ أكثر عقلانية وصواباً. ونذكر من أبرزِ هذهِ الاستراتيجيات:
● التفكير الناقد
يُشدّدُ الكاتبُ على أهمّية تَعَلّمِ مهارات "التفكير الناقد" التي تُمكّنُ الفرد من التّعامل مع المعلومات بِمُستوىً عالي من الموضوعية والحياد، بعيداً عن تأثير المُعتقدات المُسبقة والانحيازات الشخصية. ويَتطلّبُ التفكير الناقد التّساؤل الدائم والتّحليل المنطقي لِلأحداث والأفكار، وعدم التّسرّع في قبول أيّ معلومة قبل التأكّد من مصادرها ومدى صدقيّتها. فمثلاً، بدلاً من أن نُصدّق كُلّ ما نَقرأهُ على مواقع التواصل الاجتماعي، يَجبُ علينا التّحقّق من صحة المعلومات من مصادرَ موثوقة، وأن نُحاولَ فهم الدوافع التي تَكمُنُ خلف نشر هذهِ المعلومات.
● الانفتاح على الآخر
يُؤكّدُ سيبوني على أهمية الانفتاح على الآراء المُخالفة والرّغبة الحقيقية في فهمِ وجهات نظر الآخرين، حتى وإن كانت تُعارضُ قناعاتنا بشكلٍ تام. فمن شأن الانفتاح على التنوّع الفكريّ أن يُوسّع مداركنا ويُساعدنا على رؤية الأمور بِزوايا مختلفة، وبالتالي اتخاذ قراراتٍ أكثر نُضجاً وحكمة. فعلى سبيل المثال، عند مُناقشةِ قرارٍ مُهمّ داخل فريق عمل، يَجبُ علينا تشجيع الجميع على التعبير عن آرائهم بِحرّية، وأن نَستمع لِكُلّ الآراء بِانفتاحٍ وتجرّد، حتى وإن كانت مُخالفةً لِرأي الغالبية.
●الوعي بِالعواطف
يُؤكّدُ الكاتبُ على أهمية إدراك مشاعرنا والتّحكّم فيها، خاصّةً عند اتخاذ قراراتٍ مصيرية في حياتنا. فَالعواطفُ - وإن كانت جزءًا أصيلاً من طبيعتنا البشرية - إلا أنّها قد تُؤثّر على تفكيرنا بِشكلٍ سلبيّ وتُؤدّي إلى تشويه الأحداث في أذهاننا. لذلك، يَجبُ علينا أن نَعي بِمشاعرنا ونتعلّم كيفية التّحكّم فيها قبل اتخاذ أيّ قرارٍ مُهمّ. فمثلاً، إذا كنّا نشعر بِالغضب أو الإحباط، فمن الأفضل تأجيل اتخاذ أيّ قرارٍ مُصيريّ إلى أن نَستعيد هدوءنا ونستطيع النظر إلى الأمور بِمُوضوعية.
أسلوبٌ سلس يُلامسُ العقل والوجدان:
يَتميّزُ كتاب "أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح" بِأسلوبهِ السلس والمُشوّق الذي يَستَهدفُ القارئ العادي غير المُتخصّص في مجال علم النفس والتنمية البشرية. ويَعتمِدُ الكاتبُ في عرضهِ على العديد من الأمثلة الواقعية والقصص المُثيرة التي تُضفي على الكتاب بعداً تشويقياً وتُساعد القارئ على فهمِ المفاهيم العلمية بشكلٍ أفضل. وبالإضافة إلى ذلك، يُقدّمُ الكتابُ في نهايتهِ مُلخّصًا لِأهمّ الأفكار والتوصيات التي تُمكّنُ القارئ من تطبيقِها في حياتهِ اليومية.
![]() |
اقتباس من أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح |
إشادةٌ و مُلاحظات على الكتاب:
لا شكّ أنّ كتاب "أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح" يُمثّلُ إضافةً مُهمّةً ومُفيدةً لِمكتبة علم النفس الإدراكي، وذلك لِطرحِهِ الجريء ولِأسلوبهِ السهل المُمتنع. ولكن يجدر بالكاتب التّوسّع في موضوع "القرارات الجماعية" في طبعاتٍ قادمة.
خاتمة
في عالمٍ يَزدادُ تَعقيدًا يوماً بعد يوم، تُصبحُ القدرة على اتخاذ قراراتٍ سليمة أمرًا حيويًا لِلتّعامل مع التحدّيات واغتنام الفرص التي تُتيحها الحياة. و يُعدّ كتاب "أنت على وشك ارتكاب خطأ فادح" بِمثابةِ دليلٍ عمليّ يُساعدُ القارئ على فهمِ آليات عملهِ وتفكيره، ويُقدّمُ له مجموعةً من الاستراتيجيات والأدوات التي تُمكّنهُ من التغلّب على "الفخاخ الذهنية" واتخاذ قراراتٍ أكثر كفاءةً وحكمة في مختلف مناحي حياتهِ.